يمر الأردن الآن في مرحلة من انعدام الوزن وفقدان التوازن السياسي. فالعبث بإرادة الشعب ومشاعره من خلال فرض سياسات وقرارات وقوانين تتناقض ورغبة الشعب قد دفعت الأمور في مسار خطر . الكثيرون يتساءلون عن ما أوصل الأردن إلى ھذا المأزق ، ولماذا؟ الإجابة لا تستدعي ذكاءً خارقاً أو قدرة فائقة على التحليل. إن مسار السياسة الرسمية خلال عامين من عمر الحراك الشعبي في الأردن قد تمخضت عن سياسات وممارسات أقل ما يمكن أن توصف به بأنها جزءٌ من إستراتيجية غامضة وغير معلنة يتبناھا النظام ويرفضها الشعب. ولكن لماذا يدفع النظام الأمور في هذا الاتجاه؟ وهل هنالك من حل لهذا الوضع المأزوم؟
الأردنيون كغيرھم من شعوب المنطقة، لھم آمالھم وآلامھم . ومواطن شكواھم ومعاناتھم تكاد تتماثل مع معظم شعوب المنطقة. ولكن الأردنيين استطاعوا أن يميزوا أنفسھم بالجنوح الواضح نحو الإصلاح السلمي عوضاً عن فرض التغيير بقوة الحراك الشعبي العنيف. ولكن ھذا لم يشفع للشعب الأردني . فقد أخذ النظام بالتخطيط منذ البداية لاحتواء مطالب الإصلاح ومن ثم الانقضاض عليها وإجھاضھا عوضاً عن الاستجابة لھا. ھذا الحديث القديم الجديد يدفعنا إلى التساؤل فيما إذا كان ھنالك أي أمكانيه لبلورة أرضيه مشتركة جديدة وبرنامج عمل وطني قد يُمَكـِّنْ كافة أطراف المعادلة الوطنية، بما في ذلك الحُكْم، من العمل مجدداً كفريق وطني بھدف التوصل إلى مخرج لحالة الاستعصاء التي يعيشھا الأردن، ويدفع باتجاه خلق مناخ عام يتم فيه انسحاب الحلول الكارثية لصالح الحلول التوافقية ، ويتم فيه أيضاً استبدال سياسة كسر العظم بسياسة التفاھم والتنازلات المتبادلة.
ھذه النظرة المتفائلة لما يمكن أن تصبح عليه الأمور قد تكون في أصولها استجابة لمطالب البعض ممن يؤمنون بأھمية بث روح التفاؤل عوضاً عن الحديث عن الھموم والمصائب والكوارث القادمة. ولكن إذا كانت كل المعطيات تشير إلى الھموم والمصائب والكوارث فمن أين نستحضر التفاؤل؟ ھل يتم ذلك بقلب الحقائق؟ أم بإعطاء جرعه زائفة من التفاؤل؟ أم باستحضار الأشباح لطرد الحقائق ؟
إن ما نحن فيه الآن ھو في معظمه من صنع مؤسسة الحكم ، رغم أن عوامـل وظروف أخرى قاھرة أو مفروضة علينا من الخارج قد تكون أسهمت في تشكيل هذا الوضع. ولكن لو اقتصر الخلل على النتائج المترتبة على الضغوط القادمة من الخارج لكان لدى الشعب إحساس فطري بذلك ولكان ھنالك استعداد شعبي للتعاون لإنجاح المسيرة حتى لو كانت أقل من المستوى المطلوب والمنشود. ولكن النوايا السلبية لمؤسسة الحكم والسياسات والقوانين التي تمخضت عنھا كانت انعكاساً للعوامل الداخلية فقط. وقد رافق ذلك مؤخراً توجه حكومي عام نحو التصعيد والخشونة في التعامل مع المعارضة والحراك الشعبي ورموزه. ومع ذلك يبقى التساؤل فيما إذا كان ھنالك فسحة من الأمل وإذا كان ما كان هنالك نية لدى الحكم لتخفيف حالة الاحتقان الوطني العام من خلال إعادة النظر في كل السياسات والقوانين السلبي، وفي إعادة التأكيد على النوايا الصادقة لمؤسسة الحكم تجاه عملية الإصلاح الحقيقي.
إن التخوفات التي يطرحها البعض من إمكانية اقتحام الحركة الإسلامية لمؤسسة الحكم في حال توفر قانون انتخابات ديمقراطي وعادل هي تخوفات انتقائية وطارئة. ومعالجة تلك التخوفات لا تتم بالإقصاء والتجريم والتخوين ، بل بتبني سياسات إصلاحية حقيقية تخفف من حالة الاحتقان العام وتساھم في الحد من جنوح الصوت الاحتجاجي والغاضب للتصويت لصالح الحركة الإسلامية تصويتاً انتقامياً يعكس رفض سياسات الحكم، ومحدودية الخيارات الأخرى نتيجة لضعف بنية باقي أحزاب المعارضة. والحل لا يكون، كما يجري الآن، بالھجوم الشامل الكامل على الحركة الإصلاحية واختطاف مطالبھا وإعادة إنتاج تلك المطالب بشكل مقزم باعتبارھا برنامج الحكم نفسه. فمثل ھذه السياسات تسعى إلى القصم وإغلاق باب الحوار وبالتالي باب الأمل في التوصل إلى حل سلمي ومنطقي يحترم إرادة الأغلبية الشعبية ورغبتھا في الإصلاح ومحاكمة الفساد الكبير ووضع حد له.
إن محاربة الفساد الكبير ومحاكمة الفاسدين ھما قطبا المطلب الرئيسي الذي يحظي بإجماع وطني عريض، ويعتبر البوصلة التي تؤشر على نوايا الحكم تجاه برنامج الإصلاح بشكل عام. وإصرار الحكم على إغلاق ھذا الملف يعني ، بالضرورة، إصراراً غير معلن على النھج الانتقائي في التعامل مع مطالب الإصلاح. إذاً، ھنالك خلاف واضح في الرؤيا ، وھناك خلاف استراتيجي بين الحكم والشعب. فالحكم يريد درء المخاطر عن مصالحه وصلاحياته، وبالتالي الاكتفاء في استجابته للمطالب الشعبية بأقل القليل. أما الشعب فيريد إصلاحاً حقيقياً. الشعب يريد إصلاح المسيرة وإصلاح النظام ومؤسساته وإرساء دعائم دولة المواطنة والمساءلة وسيادة القانون والتعددية السياسية. أما إستراتيجية الحكم فتنحصر في الاستمرارية وبقاء الأمور على حالھا إذا أمكن، أو اقتصار التغيير – في حالة الضرورة القصوى- على الحد الأدنى وغير الجوهري.
يخضع الأردن الآن لعاصفة إعلامية تنطلق من كافة مؤسسات الحكم والعديد من شخصياته في اتجاه خلق وهم بأن المشاركة في الانتخاب سوف تؤدي إلى دفع مسيرة الإصلاح إلى الأمام وإلى إحداث نقلة نوعية في تشكيل الحكومات الأردنية بحيث تصبح حكومات برلمانية تمثل إرادة الشعب وطموحاته في الإصلاح. هذا تضليل صريح، ولو كان هذا الزعم صحيحاً، فلماذا يتم التمهيد له بفرض قانون انتخاب إقصائي يتعارض والرغبة الشعبية في الإصلاح الحقيقي؟ ولماذا يتم تسخير كافة موارد الدولة لإرغام العديد من المواطنين على التسجيل للانتخابات رغم موقفهم الرافض لقانون الانتخاب ذي الصوت الواحد؟
إن أي حكومة برلمانية لا تستند إلى أحزاب حقيقية تخوض الانتخابات على أساس برامج سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة ستكون بالضبط مثل الإصلاح الجديد الذي يقوده الحكم: عنوان جميل بدون أي محتوى حقيقي. وأي برلمان منتخب بموجب قانون إقصائي تمزيقي سوف يكون برلماناً مسلوب الإرادة. فالأغلبية ، في هذه الحالة، سوف تكون أغلبية الحكم وأجهزته والمكتوب يُقرأ من عنوانه. وبالتالي فإن "الحكومة البرلمانية" كما يراها الحكم ، سوف تكون تعبيراً عن هذا الواقع الفضفاض ولكن الأجوف. نفس الوضع القديم ولكن تحت مسمى جديد. وفي ظل مثل هذا البرلمان سيكون من السهل التلاعب بالتحالفات داخله كونه يفتقد إلى الهوية السياسية والأحزاب البرامجية. وستبقى أعين معظم النواب مسلطة على المكاسب الشخصية في ظل غياب رقابة حزبية عليهم.
إذا نحن مقبلون على وضع جديد يستند إلى قبضة السلطة ويستلهم العقلية العرفية عوضاً عن الحوار والتنازلات المتبادلة والحلول التوفيقية الوسطية. واللوم في ذلك يقع على الحكم كونه المبادر، حتى الآن، في الإجراءات التي استفزت العديد من القوى السياسية والاجتماعية. فقانون الانتخاب ، والقانون المعدل لقانون المطبوعات ، واستعمال الماكنة الإعلامية للدولة، وهي ملك الشعب، للترويج لوجهة نظر الحكم والهجوم على وجهات النظر الأخرى، مهما كانت معتدلة، واعتقال بعض قادة الحراك الشبابي والتهديد باعتقال آخرين، يعطي مؤشراً واضحاً على طبيعة المرحلة المقبلة : إصلاح شكلي وديمقراطية على طريقة الحكم لمن يطيع والقبضة الحديدية لمن لا يطيع. إن أهمية ، وبالتالي، خطورة حقبة ما بعد الانتخابات كما يتم التخطيط لها الآن أنها سوف تؤسس للدولة العرفية بثوب إصلاحي وشبه ديمقراطي. كما أن مساهمة المعارضة، بما فيها الحركات الإسلامية، في الانتخابات سوف تعطي هذا النهج الرسمي وما سيتمخض عنه من سياسات، الشرعية اللازمة التي يحتاج إليها حاجة ماسة.
الإدعاء الخاطئ بأن البديل للوضع القائم هو استلام الإسلاميين الحكم والفوضى التي ستعقب ذلك لهو كلام عجيب حيث أن معظم قوى المعارضة، المنظمة وغير المنظمة، هي قوى علمانية . فالمعارضة لنهج الحكم المعادي للإصلاح الحقيقي لا تعني تأييداً لبرنامج الحركة الإسلامية. وقد تلتقي كل فئات المعارضة جزئياً أو كلياً في معارضتها لنهج الحكم، ولكن هذا لا يعني أن كل من يعارض الحكم هو مؤيد للحركة الإسلامية، كما أنه لا يعني بالضرورة أنه مختلف مع الحركة الإسلامية . ولكن محاولات الحكم تصوير الأمور بهذه الصورة وكأن الحركة الإسلامية هي من يقود المعارضة مع إصرار واضح ومتواصل ومعلن على عدم التعامل مع الجبهة الوطنية للإصلاح مع أنها الإطار العام الجامع لمعظم أطياف المعارضة بما في ذلك الحركة الإسلامية ، هو أمر يدعو إلى التساؤل في ظل شكوى الحكم من الخطر الإسلامي. هدف الحكم إذاً أصبح واضحاً من خلال إعطاء المعارضة في الأردن الصفة الإسلامية حصراً كوسيلة للتخويف ووضع الناس أمام خيار وهمي واحد: إما بقاء الوضع على حاله أو مجيء الإسلاميين للحكم.
إن غياب إستراتيجية وطنية منبثقة عن حوار وطني شامل يغطي كافة أطراف المعادلة السياسية سوف يخلق فراغاً سياسياً قد يتم ملئه في نھاية المطاف من قوى وتيارات معادية للإصلاح والديمقراطية. ويبدو أن هذا ما يسعى إليه الحكم في الأردن في ظل غياب أي نوايا للمساهمة في حوار وطني جاد للوصول إلى قواسم مشتركة تستعمل أساساً لمرحلة جديدة من الوفاق الوطني على برنامج إصلاحي. والحكم لم يكتفي بالامتناع عن اتخاذ مثل هذه الخطوة، بل استمر في محاربته لقوى المعارضة بكل أطيافها واعتبرها العدو عوضاً عن التعامل معها كشريك. وقد تمادى النظام في هذه السياسة إلى الحد الذي جعل من حلفاء الأمس أعداء اليوم. وبلغ هذا الوضع من السوء إلى الحد الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب التي حولت شخصيات سياسية تبوأت أعلى المناصب وكانت من أعمدة النظام مثل أحمد عبيدات وعون الخصاونة وعبد الكريم الكباريتي ومروان المعشر ، ما الذي حولهم إلى معارضين أو ناقدين للنظام وسياساته ؟ هل يمكن أن يكون الجميع مخطئين والنظام هو الصائب أم ماذا؟
المثل القديم يقول "تفاءلوا بالخير تجدوه"، أما الشر فيبدو أنه قادر على الوصول إلينا دون أن نتفاءل به أو نبحث عنه.
[نشر للمرة الأولى في جريدة "القدس العربي" وجدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب]